إهداءً للجميع ودمتم بكل الخير :
..﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾..
(سورة يونس 58)
في ليلة من هذه الليالي الحارَّة، قُبَيل رمضان، أقضت الكروبُ مضاجع البناتِ، فجمَعْنَ أنفسهَنَّ وقرَّرنَ أن يزُرْن أمَّهن؛ يطْرَحن همومهنَّ في صدْرها، ويستظْلِلْنَ ببركة حُبِّها، ويَنَلْنَ أجْر برِّها ووصْلها.
هنَّ: راشدات متزوِّجات، انْفصَلْن من سنين عن البيت الكبير، كلٌّ في حياتها، ولكنَّ اللفْظَة - البنات - هي التعبير الدَّارِج في عُرْفِ بلْدَتِهن؛ لتثبيت الفاصل الفارق بينهنَّ وبين الذكور.
رأَيْنَها فبَكَين محتَضِناتٍ إياها؛ فقد طال أمَدُهنَّ بعيدًا عن حنانها، وفرِحَت هي بقدومهنَّ،فأعتدتْ لهنَّ متَّكَأً باردًا وشرابًا، ولَمَّا كانت الأنوار مفقودة، شأْنَ ليالي البلدة
الرَّطْبة، فقد أسْرَجَت لهنَّ سراجًا، فتحلَّقْنَ حولَها، تمدَّدَت
النظرات بينهن متفحِّصة، وتجمَّعت في وجْه الأم، فعَجِبْنَ لها؛ كيف بدَتْ
هذه الملامح المُتَغَضِّنة بهذاالجلال السَّامي، وكأنَّما هذه الأنْثى الوحيدةُ تَعِيش وقد جَدَلَت ضفائِرَها المجثوثة لِجَامًاتشدُّ به عُرَى الأيَّام.
اقْترَبْن
منها حتَّى تشابكَتْ شُعورهن، وتداخَلَتْ رِيحُهنَّ، وهي - الأمُّ - تَعرف
كلَّ واحدة، وإن طالَتْ بعيدًا عنها بها الأيام.
تحدَّثَت أُولاَهنَّ فقالت: لم أَعُد أجِد ما أنتمي إليه، بل إنِّي يومًا لم أَجِد مَن أنتمي إليه، ترَكَني الجميع ووَلَّوْا، ظلَمَني الكبير، وعقَّني الصغير، حتَّى جسدي تفَتَّت عَضُده، وذاب حُسْنه، وبهتَتْ قَسماتُه، لم يَعُد عندي غيْرُ قلبي أعْصِر به قلْبي، ويَدِي أضَمُّها إلى يَدِي، وأنغِضُ رأسي، وأسأل: يا ربِّي، متَى الفَرَج؟
تبَسَّمت الثانية في مرَارة وقالت: أمَّا أنا؛ فلا أعرف الفقد، بَيْدَ أنِّي دومًا أنتظر، رغم أنَّه ليس لي أحَد، ليس لي غائب فيعود!
قالت أختْها:
أمَّا أنَا فعَضَّتني الوحْدة، وقتَلَتني الوَحْشة، وغلَبَني الظَّلام!
كان بين يديَّ صاحبي، فأَوْقَد بين جَنباتِي شَمْعة، ثم تحوَّل مَدارُه،
فانْفتَل فلَكُه عنِّي وارْتحل، عَمدْتُ إلى شَمْعته أُطْفِئها، لكنَّها كانت قد كشَفَت ظلال العنكبوت،وأَعْشَاش من قديم وخيوط ، فخِفْت وما عرَفْتُ لحالي أن أعود.
وقالت الأخيرة:أمَّا أنا فأَسيرةٌ أَجِيرة! حرَمَني الجمال والعيال، هو يَملك الوَقْت والمال،ويعطيني بملْكِه وقتًا مستعارًا أعيش فيه، ومالاً منقرضًا أتقَوَّت به، وظَنَّ بذلك أنَّه يملك من قلبي كما ملَك زِمَام أمْري!!
بَكَين مجدَّدًا حتى تقاطَرَت آلامُهن مع الصَّمت،
وظنَّت الأمُّ أنْ أجْدَبت نفُوسُهن، فرجف قلْبُها، وتوجَّسَت في نفْسِها
خِيفةً، ثم استعانت بربِّها، واستعاذَتْ من الشيطان واستغاثت بذِي
الشَّان، فجاءالنُّور، وطَفِقَت تَقُول:
أيْ
بنَاتي، وإنَّما هي صُروف الدُّنيا، وهي بلوات القدَر، تزلزل الحكيمَ
الرَّزايا، ولكن العِبْرة لمن اعْتَبر، أرَى شدَّة وظلامَ بأْس، لكنَّه
رسول بين يَدَي ميلاد الفجر ابْتَدَر.
اصْبِرن
واجتهِدْنَ، وارْتَقِين، وارْجون اليقين في جنَّات ونهَر، وما كان لِوَجه
الله الكريم ارْتَقى، وما كان لِغَير العزيز اللَّطِيف اندَثَر.
اسْمَعن هذا الدَّاعي ينادي من مكان قريب: رمَضان أَقْبل، هيَّا استَنِر.
أقْبِلْن؛ فهَذِي ليالي رمَضان تزيَّنَت،
وزُفَّت لمن غيض ماؤه، واسْتَوَت على جُودِيِّه ذات ألواح ودُسُر، فيها
جزَاء، فيها وفاء، فيها نعيمٌ لِمُؤمنٍ حظُّه من الدنيا ابتسر، أَصْغِين
وعِينَ! فإنِّي أشَمُّ رِيح الجِنَان هَبَّت مبشِّرات، داعيات إلى مَقْعد
صِدْق عند مليك مقْتَدِر، ربِّ أنْزِلني مُنْزَلاً مبارَكًا وأنت خير
المنْزِلين.
الحمد لله ربِّ العالمين.
..﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾..
(سورة يونس 58)
في ليلة من هذه الليالي الحارَّة، قُبَيل رمضان، أقضت الكروبُ مضاجع البناتِ، فجمَعْنَ أنفسهَنَّ وقرَّرنَ أن يزُرْن أمَّهن؛ يطْرَحن همومهنَّ في صدْرها، ويستظْلِلْنَ ببركة حُبِّها، ويَنَلْنَ أجْر برِّها ووصْلها.
هنَّ: راشدات متزوِّجات، انْفصَلْن من سنين عن البيت الكبير، كلٌّ في حياتها، ولكنَّ اللفْظَة - البنات - هي التعبير الدَّارِج في عُرْفِ بلْدَتِهن؛ لتثبيت الفاصل الفارق بينهنَّ وبين الذكور.
رأَيْنَها فبَكَين محتَضِناتٍ إياها؛ فقد طال أمَدُهنَّ بعيدًا عن حنانها، وفرِحَت هي بقدومهنَّ،فأعتدتْ لهنَّ متَّكَأً باردًا وشرابًا، ولَمَّا كانت الأنوار مفقودة، شأْنَ ليالي البلدة
الرَّطْبة، فقد أسْرَجَت لهنَّ سراجًا، فتحلَّقْنَ حولَها، تمدَّدَت
النظرات بينهن متفحِّصة، وتجمَّعت في وجْه الأم، فعَجِبْنَ لها؛ كيف بدَتْ
هذه الملامح المُتَغَضِّنة بهذاالجلال السَّامي، وكأنَّما هذه الأنْثى الوحيدةُ تَعِيش وقد جَدَلَت ضفائِرَها المجثوثة لِجَامًاتشدُّ به عُرَى الأيَّام.
اقْترَبْن
منها حتَّى تشابكَتْ شُعورهن، وتداخَلَتْ رِيحُهنَّ، وهي - الأمُّ - تَعرف
كلَّ واحدة، وإن طالَتْ بعيدًا عنها بها الأيام.
تحدَّثَت أُولاَهنَّ فقالت: لم أَعُد أجِد ما أنتمي إليه، بل إنِّي يومًا لم أَجِد مَن أنتمي إليه، ترَكَني الجميع ووَلَّوْا، ظلَمَني الكبير، وعقَّني الصغير، حتَّى جسدي تفَتَّت عَضُده، وذاب حُسْنه، وبهتَتْ قَسماتُه، لم يَعُد عندي غيْرُ قلبي أعْصِر به قلْبي، ويَدِي أضَمُّها إلى يَدِي، وأنغِضُ رأسي، وأسأل: يا ربِّي، متَى الفَرَج؟
تبَسَّمت الثانية في مرَارة وقالت: أمَّا أنا؛ فلا أعرف الفقد، بَيْدَ أنِّي دومًا أنتظر، رغم أنَّه ليس لي أحَد، ليس لي غائب فيعود!
قالت أختْها:
أمَّا أنَا فعَضَّتني الوحْدة، وقتَلَتني الوَحْشة، وغلَبَني الظَّلام!
كان بين يديَّ صاحبي، فأَوْقَد بين جَنباتِي شَمْعة، ثم تحوَّل مَدارُه،
فانْفتَل فلَكُه عنِّي وارْتحل، عَمدْتُ إلى شَمْعته أُطْفِئها، لكنَّها كانت قد كشَفَت ظلال العنكبوت،وأَعْشَاش من قديم وخيوط ، فخِفْت وما عرَفْتُ لحالي أن أعود.
وقالت الأخيرة:أمَّا أنا فأَسيرةٌ أَجِيرة! حرَمَني الجمال والعيال، هو يَملك الوَقْت والمال،ويعطيني بملْكِه وقتًا مستعارًا أعيش فيه، ومالاً منقرضًا أتقَوَّت به، وظَنَّ بذلك أنَّه يملك من قلبي كما ملَك زِمَام أمْري!!
بَكَين مجدَّدًا حتى تقاطَرَت آلامُهن مع الصَّمت،
وظنَّت الأمُّ أنْ أجْدَبت نفُوسُهن، فرجف قلْبُها، وتوجَّسَت في نفْسِها
خِيفةً، ثم استعانت بربِّها، واستعاذَتْ من الشيطان واستغاثت بذِي
الشَّان، فجاءالنُّور، وطَفِقَت تَقُول:
أيْ
بنَاتي، وإنَّما هي صُروف الدُّنيا، وهي بلوات القدَر، تزلزل الحكيمَ
الرَّزايا، ولكن العِبْرة لمن اعْتَبر، أرَى شدَّة وظلامَ بأْس، لكنَّه
رسول بين يَدَي ميلاد الفجر ابْتَدَر.
اصْبِرن
واجتهِدْنَ، وارْتَقِين، وارْجون اليقين في جنَّات ونهَر، وما كان لِوَجه
الله الكريم ارْتَقى، وما كان لِغَير العزيز اللَّطِيف اندَثَر.
اسْمَعن هذا الدَّاعي ينادي من مكان قريب: رمَضان أَقْبل، هيَّا استَنِر.
أقْبِلْن؛ فهَذِي ليالي رمَضان تزيَّنَت،
وزُفَّت لمن غيض ماؤه، واسْتَوَت على جُودِيِّه ذات ألواح ودُسُر، فيها
جزَاء، فيها وفاء، فيها نعيمٌ لِمُؤمنٍ حظُّه من الدنيا ابتسر، أَصْغِين
وعِينَ! فإنِّي أشَمُّ رِيح الجِنَان هَبَّت مبشِّرات، داعيات إلى مَقْعد
صِدْق عند مليك مقْتَدِر، ربِّ أنْزِلني مُنْزَلاً مبارَكًا وأنت خير
المنْزِلين.
الحمد لله ربِّ العالمين.